إدارة الشئون الفنية
أثر الإيمان في طمأنينة الإنسان

أثر الإيمان في طمأنينة الإنسان

13 مارس 2020

خطبة الجمعة المذاعة والموزعة

بتاريخ 4 من رجب 1441هـ - الموافق 28 / 2 / 2020م

أَثَرُ الْإِيمَانِ فِي طُمَأْنِينَةِ الْإِنْسَانِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعَزَّنَا بِالْإِسْلَامِ وَأَكْرَمَنَا بِالْإِيمَانِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعَالَى عَنِ الْأَمْثَالِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَقْرَانِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، الْمَبْعُوثُ بِالرَّحْمَةِ وَالْهُدَى إِلَى الْإِنْسِ وَالْجَانِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الْأَطْهَارِ وَصَحْبِهِ الْأَخْيَارِ، أَشْرَحِ النَّاسِ صُدُورًا وَأَسْكَنِهِمْ نُفُوسًا، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا عَلَى مَدَى الْأَزْمَانِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَتِهِ بِمَا رَزَقَكُمْ، وَاسْتَمْسِكُوا بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى؛ )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( [الحديد:28].

أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:

إِنَّ أَعْظَمَ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْإِنْسَانِ هِيَ نِعْمَةُ الْإِيمَانِ؛ فَبِالْإِيمَانِ يَدْخُلُ الْعَبْدُ الْجِنَانَ، وَيُنَجَّى مِنَ النِّيرَانِ، وَيُحَلَّى بِحُلَّةِ الرِّضْوَانِ. وَالْإِيمَانُ – يَا عِبَادَ اللهِ- قَوْلٌ وَعَمَلٌ: إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَتَصْدِيقٌ بِالْجَنَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ، وَهُوَ يَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي وَالْمُوبِقَاتِ.

وَإِنَّ لَهُ فِي النُّفُوسِ لَأَثَرًا كَبِيرًا، وَفِي طُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ وَانْشِرَاحِ الصُّدُورِ خَيْرًا كَثِيرًا ؛ إِذْ يُطَهِّرُ النُّفُوسَ فَيَجْعَلُهَا آمِنَةً زَكِيَّةً، وَيُسَكِّنُ الْقُلُوبَ بِالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ لِرَبِّ الْبَرِيَّةِ، وَيَبْنِي حَيَاةَ الْإِنْسَانِ عَلَى السَّعَادَةِ وَالْأَمَانِ، وَيُقِيمُهَا عَلَى الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَيُؤَسِّسُهَا عَلَى الْخِصَالِ الرَّشِيدَةِ؛ حَتَّى يَسْتَمْرِئَ الْمُؤْمِنُ الْعِزَّ وَالْكَرَامَةَ وَسَائِرَ الْفَضَائِلِ، وَيَسْتَبْرِئَ مِنَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَكُلِّ الرَّذَائِلِ، فَأَكْرِمْ بِالْإِيمَانِ سَبِيلًا إِلَى الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ!، وَأَنْعِمْ بِهِ وَسِيلَةً إِلَى الْجِنَانِ وَالرِّضْوَانِ!.

أَلَا وَإِنَّ فِي النَّفْسِ شَعَثًا وَفِي الْقَلْبِ فَرَاغًا لَا يَلُمُّهُ وَلَا يَمْلَؤُهُ إِلَّا الْإِيمَانُ بِاللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ فَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: (لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ- يَعْنِي: مِنْ لَذَّةِ الْإِيمَانِ وَحَلَاوَتِهِ- لَجَالَدُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ).

فَمَحَبَّةُ الطَّاعَةِ وَالْإِيمَانِ، وَكَرَاهِيَةُ الْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرَانِ: تُوجِبُ لِلْإِنْسَانِ زَكَاةً وَطُمَأْنِينَةً، وَتُورِثُهُ رَاحَةً وَسِكِينَةً؛ يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (فَفِي الْقَلْبِ شَعَثٌ لَا يَلُمُّهُ إِلَّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللهِ. وَفِيهِ وَحْشَةٌ لَا يُزِيلُهَا إِلَّا الْأُنْسُ بِهِ فِي خَلْوَتِهِ. وَفِيهِ حُزْنٌ لَا يُذْهِبُهُ إِلَّا السُّرُورُ بِمَعْرِفَتِهِ وَصِدْقِ مُعَامَلَتِهِ. وَفِيهِ قَلَقٌ لَا يُسَكِّنُهُ إِلَّا الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ، وَالْفِرَارُ مِنْهُ إِلَيْهِ. وَفِيهِ نِيرَانُ حَسَرَاتٍ: لَا يُطْفِئُهَا إِلَّا الرِّضَا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَقَضَائِهِ، وَمُعَانَقَةُ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ إِلَى وَقْتِ لِقَائِهِ... وَفِيهِ فَاقَةٌ: لَا يَسُدُّهَا إِلَّا مَحَبَّتُهُ، وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ، وَدَوَامُ ذِكْرِهِ، وَصِدْقُ الْإِخْلَاصِ لَهُ. وَلَوْ أُعْطِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَمْ تَسُدَّ تِلْكَ الْفَاقَةَ مِنْهُ أَبَدًا).

عِبَادَ الرَّحْمَنِ:

إِنَّ إِيمَانَ الْعَبْدِ بِالْغَيْبِ، وَمِنْهُ عَلَامَاتُ السَّاعَةِ، وَالْبَرْزَخُ، وَالْيَوْمُ الْآخِرُ وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ أَحْوَالٍ وَأَهْوَالٍ: يُورِثُ الْمُؤْمِنَ خَشْيَةَ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي سِرِّهِ وَجَهْرِهِ، فِي يُسْرِهِ وَعُسْرِهِ، فِي حَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ؛ فَإِنَّ القَلْبَ إِذَا امْتَلَأَ بِالخَوْفِ وَالإِجْلَالِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَتْهُ سَكِينَةٌ وَطُمَأْنِينَةٌ فِي الْحَيَاةِ، وأَحْجَمَتِ الأَعْضَاءُ عَنِ ارْتِكَابِ المَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ، قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: )وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ( [الأنبياء:48-49].

كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ يُقَوِّي صِلَةَ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ بِالْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْوَاجِبَاتِ الْمُؤَكَّدَةِ وَالْقُرُبَاتِ الْمَنْدُوبَةِ، وَيَعْبُدُ اللهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَيَجِدُ بِعِبَادَتِهِ أُنْسًا وَلَذَّةً لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا مَنْ ذَاقَهَا، فَإِذَا صَلَّى خَشَعَ، وَإِذَا زَكَّى أَحْسَنَ لِلَّهِ فِيمَا صَنَعَ، وَإِذَا صَامَ رَاقَبَ اللهَ، وَإِذَا حَجَّ أَخْلَصَ لِلَّهِ؛ وَلِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِدُ رَاحَتَهُ وَأُنْسَهُ فِي الصَّلَاةِ؛ فَهِيَ قُرَّةُ عَيْنِهِ وَسَلْوَةُ فُؤَادِهِ؛ فَعَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ، فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا بِلَالُ، أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]. فَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَرِيحُ بِالصَّلَاةِ لِمَا فِيهَا مِنْ مُنَاجَاةِ اللهِ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ].

إِخْوَةَ الإِيمَانِ:

وَيَتَوَلَّدُ مِنَ الْإِيمَانِ: حُبُّ الطَّاعَةِ وَطُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ، )الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ( [الرعد:28]؛ أَيْ: يَزُولُ قَلَقُهَا وَاضْطِرَابُهَا، وَتَحْضُرُهَا أَفْرَاحُهَا وَلَذَّاتُهَا وَتُفْتَحُ أَبْوَابُهَا، فَفِي ذِكْرِهِ السَّعَادَةُ وَالْهَنَاءُ، وَفِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ الضَّلَالُ وَالشَّقَاءُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ) فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى  ( [طه: 123- 124]. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الطَّاعَةَ تُوجِبُ الْقُرْبَ مِنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، فَكُلَّمَا اشْتَدَّ الْقُرْبُ قَوِيَ الْأُنْسُ، وَالْمَعْصِيَةُ تُوجِبُ الْبُعْدَ مِنَ الرَّبِّ، وَكُلَّمَا زَادَ الْبُعْدُ قَوِيَتِ الْوَحْشَةُ). كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَشْعُرُ بِأَنَّهُ فِي حِمَايَةِ اللهِ؛ فَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ وَيَطْمَئِنُّ فُؤَادُهُ وَتَسْكُنُ نَفْسُهُ وَيَقْوَى عَزْمُهُ، قَالَ تَعَالَى: ) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا( [الحج:38].

وَالْإِيمَانُ – يَا عِبَادَ اللهِ – يَغْرِسُ فِي النَّفْسِ الشَّجَاعَةَ وَالْإِقْدَامَ، وَيُكَرِّهُ إِلَيْهَا الْجُبْنَ وَالْإِحْجَامَ، فَكَمْ صَنَعَ مِنْ رِجَالٍ شُجْعَانٍ! وأَبْطالٍ فُرْسانٍ! دَكُّوا حُصُوناً ومَعَاقِلَ، فَفَتَحُوا الْبِلَادَ وَقُلُوبَ الْعِبَادِ؛ حتَّى صَارَ جَبِينُ التَّارِيخِ نَاصِعاً بِسِجِلِّ بُطُولَاتِهِمْ، وغَدَا كِتَابُهُ حَافِلًا بِعَظَائِمِ تَضْحِيَاتِهِمْ.

هَذَا جَعْفَرٌ الطَّيَّارُ: الشَّابُّ المُتَلَهِّبُ وَالْمُجَاهِدُ المُحْتَسِبُ، قَاتَلَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ بِشَجَاعَةِ الأَبْطَالِ، وَاسْتَبْسَلَ اسْتِبْسَالًا عَزَّ مَثِيلُهُ فِي الرِّجَالِ، حَتَّى إِذَا أَرْهَقَهُ الْقِتَالُ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ فَعَقَرَهَا، ثُمَّ قَاتَلَ بِاسْتِمَاتَةٍ حتَّى قُطِعَتْ يَمِينُهُ؛ فَأَخَذَ الرَّايَةَ بشِمَالِهِ، ثُمَّ قُطِعَتْ شِمَالُهُ؛ فَجَعَلَ الرَّايَةَ بَيْنَ عَضُدَيْهِ، ولَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حتَّى قَضَى شَهِيداً فِي سَبِيلِ اللهِ يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ بِجَنَاحَيْهِ.

وَالْإِيمَانُ يُنَمِّي فِي النُّفُوسِ حُبَّ الْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ، وَاسْتِهْوَاءَ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ؛ فَقَدْ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِمَالِهِ كُلِّهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَجَاءَ عُمَرُ بِنِصْفِ مَالِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَلَمْ يَبْخَلْ بِمَالِهِ إِلَّا الْمُنَافِقُونَ. وتَصَدَّقَ عُثْمَانُ t بِمِائَتَيْ بِعِيرٍ، ثُمَّ بِمِائَةِ بَعيرٍ أُخْرَى، وَجَاءَ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَنَثَرَهَا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّبُهَا وَيَقُولُ: »مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَومِ« [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ].

وَيُرَسِّخُ الْإِيمَانُ فِي النَّفْسِ حُبَّ الْإِحْسَانِ إِلَى بَنِي الْإِنْسَانِ؛ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (إِنَّ الْكَرِيمَ الْمُحْسِنَ أَشْرَحُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَطْيَبُهُمْ نَفْسًا، وَأَنْعَمُهُمْ قَلْبًا. وَالْبَخِيلَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إحْسَانٌ أَضْيَقُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَنْـكَدُهُمْ عَيْشًا، وَأَعْظَمُهُمْ هَمًّا وَغَمًّا).

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسَتَغْفِرُ اللهَ الْغَفُورَ الْحَلِيمَ، لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَحُوبٍ، فَتُوبُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ جَلَّ فِي عُلَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَمُصْطَفَاهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ نَلْقَاهُ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَتِهِ بِمَا رَزَقَكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ كَمَا أَمَرَكُمْ؛ يَزِدْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ كَمَا وَعَدَكُمْ.

عِبَادَ اللهِ:

إِنَّ الإِيمَانَ يَغْرِسُ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ وَالتَّسْلِيمَ لِقَدَرِهِ، وَالصَّبْرَ عَلَى بَلَائِهِ وَالثِّقَةَ بِحِكْمَتِهِ، فَكَمْ يَتَعرَّضُ المَرْءُ لِلِابْتِلَاءِ وَالْمِحَنِ، وَالمَصَائِبِ وَالْفِتَنِ! بَيْدَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَجْعَلُ المِحْنَةَ مِنْحَةً، ويُبَدِّلُ الْيَأْسَ إِلَى تَفَاؤُلٍ وَرَجَاءٍ، والْمُصِيبَةَ إِلَى فُرْصَةٍ لِلْأَجْرِ وَحُسْنِ الْجَزَاءِ، وَلِسَانُ حَالِهِ وَقَالِهِ يُرَدِّدُ قَوْلَ الحَقِّ جَلَّ جَلَالُهُ: )قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا( [التوبة:51].

وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ، وَأَنَّ الْأَجَلَ مَحْتُومٌ، فَيَطْمَئِنُّ إِلَى رِزْقِهِ، فَلَا طَمَعَ وَلَا جَشَعَ، وَلَا حِقْدَ وَلَا حَسَدَ، وَنُصْبَ عَيْنَيْهِ قَوْلُ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: )وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ  ( [الذاريات: 22-23]، وَالْمُؤْمِنُ عَلَى يَقِينٍ قَاطِعٍ بِأَنَّ أَجَلَهُ مَحْتُومٌ فَإِذَا جَاءَ لَا يُقَدَّمُ وَلَا يُؤَخَّرُ بِنَصِّ كِتَابِ اللهِ الْقَائِلِ: )وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ( [الأعراف:34]. وَفِي فُؤَادِهِ قَوْلُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رُوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ: أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ» [رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].

وَهُوَ عَلَى إِيمَانٍ رَاسِخٍ بِأَنَّهُ لَا يُعْطِي – عَلَى الْحَقِيقَةِ – وَلَا يَمْنَعُ، وَلَا يَصِلُ وَلَا يَقْطَعُ، وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ؛ إِلَّا اللهُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَعَظُمَتْ حِكْمَتُهُ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا غُلَامُ، أَوْ يَا غُلَيِّمُ، أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ؟» فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ؛ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ؛ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].

إِنَّ الْإِيمَانَ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ – يَا عِبَادَ اللهِ – يُحْيِي الْمَرْءَ حَيَاةً طَيِّبَةً رَضِيَّةً، وَيُجْزَى الْمَرْءُ أَجْرَهُ فِي الْآخِرَةِ جَزَاءً مَرْضِيًّا، كَمَا قَالَ رَبُّ الْبَرِيَّةِ: )مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ  ( [النحل:97 ]. وَيَبْعَثُ فِيهِ الرِّضَا النَّفْسِيَّ وَالِاطْمِئْنَانَ الْقَلْبِيَّ، وَيُصْلِحُ الْفَرْدَ وَالْمُجْتَمَعَ، وَيَحْمِلُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالصَّلَاحِ، وَيُورِثُ التَّوْفِيقَ وَالنَّجَاةَ وَالْفَلَاحَ.

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الأَرْبَعَةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَالأَئِمَّةِ الحُنَفَاءِ المَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ وَأَهْلَهُ، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِليْنَا الإِيمَانَ وزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنا يَا رَبَّنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، وَأَحْسِنْ خَاتِمَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَ الْبِلَادِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ أَعْمَالَهُمَا فِي طَاعَتِكَ وَرِضَاكَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.

لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة

الرقعي - قطاع المساجد - مبنى تدريب الأئمة والمؤذنين - الدور الثاني